طقوس يوميّة... كيف يعمل المبدعون؟ [1/ 3]

"طقوس يوميّة: كيف يعمل الفنّانون؟" (Daily Rituass: How Artists Work?) كتاب لماسون كاري، صادر عام 2013، يخوض في تفاصيل صغرى، يوميّة وذات أهمّيّة، في حياة الفنّانين، والعلماء، والمبدعين، والتي لها تأثيرها في إبداعاتهم. كيف تعامل المبدعون مع الزمن وطبيعة الطقوس التي تحكم علاقتهم بالكتابة. نستعرض في فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة شيئًا من روتين حياة بعض الكتّاب، والشعراء، والفلاسفة الغربيّين.

كانط: وجبة واحدة في اليوم

يتلخّص روتين الفيلسوف الألمانيّ إيمانويل كانط (1724 - 1804) اليوميّ في الآتي: يستيقظ الساعة الخامسة صباحًا، قبل خادمه الذي اعتاد على ذلك لسنوات، العسكريّ القديم الذي أُعطيت له أوامر مشدّدة بعدم ترك سيّده ينام صباحًا. بعد ذلك، يشرب فنجانًا من الشاي أو اثنين، ويدخّن غليونه. بعد فترة التأمّل هذه، يشرع كانط في إعداد محاضراته اليوميّة، والكتابة قليلًا. تبدأ المحاضرات السابعة صباحًا وتستمرّ حتّى الحادية عشرة. بعد إنجاز واجباته الأكاديميّة، يتوجّه الفيلسوف إلى مطعم من أجل وجبة الغداء، وستكون الوجبة الكاملة الوحيدة التي سيتناولها خلال اليوم بأسره.

إيمانويل كانط

لم يكن كانط يميل إلى صحبة زملائه الأكاديميّين أثناء الغداء، إنّما يفضّل أناسًا من فئات اجتماعيّة مختلفة. وفي ما يتعلّق بالطعام، فإنّه يختار أطباقًا بسيطة، بلحم مطبوخ جيّدًا، مصحوبة بمشروب جيّد. قد يدوم الغداء إلى حدود الثالثة، حيث سينتفض كانط ليقوم بجولته المأثورة وزيارة صديقه الحميم جوزيف غرين. يخوض الصديقان في دردشة إلى حدود السابعة (وحتّى التاسعة مساء في نهاية الأسبوع بمعيّة بعض الأصدقاء). بعد العودة إلى منزله، يعمل كانط قليلًا، ويقرأ قبل أن يلوذ بفراشه العاشرة بالضبط. إنّ صرامة نظامه اليوميّ لم تتحقّق إلّا بعد أن بلغ الأربعين،

وقد صاغ كانط مفهومًا أظريفًا حول الطبيعة الإنسانيّة؛ فالطبع لديه طريقة لتنظيم حياتنا، اختيرت بشكل عقلانيّ، تستند إلى سنوات من التجارب المتنوّعة؛ وهو يرى أنّنا لا نستطيع، في الواقع أن نطوّر طبعنا بشكل حقيقيّ، إلّا عندما نطأ عتبة الأربعين.

فولتير: العمل في الفراش

كاتب التنوير الفرنسيّ وفيلسوفه، فولتير (1694 - 1778)، يعجبه العمل في الفراش، ولا سيّما في سنواته الأخيرة. وسجّل أحد زوّاره عام 1774 الروتين الذي يتّبع: يقضي الصباح في الفراش، يقرأ ويملي نصوصًا جديدة على أحد سكرتيريه. عند منتصف النهار، يغادر الفراش ويرتدي ملابسه. يشرع في استقبال زوّار أو يواصل عمله، في حال لم يكن ثمّة زائر، يتناول القهوة والشوكلاته (لا يتناول غداءه).

فولتير

بين الثانية والرابعة يخرج فولتير وسكرتيره لتفقّد المزرعة، ثمّ يعود للعمل إلى حدود الثامنة، الساعة التي يجتمع فيها بابنة أخته الأرملة، السيّدة دينس (وخليلته لسنوات طويلة)، وآخرين، لأجل العشاء. لكن يوم عمله لا ينتهي هنا: غالبًا ما يستأنف فولتير إملاءه بعد العشاء، مواصلًا حتّى توغّل الليل. ويقدّر الزائر أنّ فولتير وسكرتيره كانا يشتغلان ما بين تسع عشرة ساعة وعشرين في اليوم.

ديكنز: صمت مطلق

كان تشارلز ديكنز (1812 - 1870) غزير الإنتاج، أصدر خمس عشرة رواية، عشرًا منها تتجاوز التسعمئة صفحة، وعددًا كبيرًا من القصص، والمقالات، والرسائل، والإبداعات المسرحيّة. يحتاج ديكنز في المقام الأوّل إلى الصمت المطلق؛ كان عليه أن يُثبّت بابًا جديدًا لأحد منازله لكي يقضي على الضجيج. وعلى مكتبه أن يظلّ منظّمًا بدقّة؛ مكتب يقابل النافذة، وعليه أدوات الكتابة، ريشات وحبر أزرق، فضلًا عن بعض الإكسسوارات: مزهريّة بورود طازجة، فضّاض رسائل كبير، صينيّة مطليّة بالذهب يعلوها مجسّم أرنب، تمثالان نحاسيّان.

كانت ساعات عمل ديكنز متنوّعة. يتذكّر نجله الأكبر أنّه "ليس ثمّة وجود لموظّف عموميّ أكثر منهجيّة وتنظيمًا؛ فما من مهمّة رتيبة أو تقليديّة لم تُنجز أبدًا في توقيت دقيق أو بانتظام أكثر حرفيّة كتلك التي أضفى عليها خياله أو إلهامه". يستيقظ السابعة، يفطر الثامنة، ويلج مكتبه التاسعة. يقبع هناك حتّى الثانية ظهرًا، مقتطعًا فترة زمنيّة قصيرة لتناول الغداء بمعية أسرته، وفي بعض الأحيان يبدو منتشيًا، يأكل بطريقة آليّة، ومن دون التلفّظ بكلمة قبل العودة بسرعة إلى مكتبه.

تشارلز ديكنز

يمكنه، بهذه الطريقة، أن يكتب في يوم عاديّ حوالي ألفي كلمة، وقد يبلغ أحيانًا الضعف في حالات توهّجه الخياليّ. لكن، في بعض الأيّام، بالكاد يكتب، لكنّه يلتزم ساعات عمله سواء بمزاولة الرسم، أو النظر عبر النافذة من أجل التأمّل أو قتل الوقت.

بمجرّد أن تدقّ الساعة الثانية ظهرًا، يغادر ديكنز مكتبه إلى جولة مشي تستغرق ثلاث ساعات، عبر مسالك الجبل أو بين أنحاء لندن. أمّا ليالي ديكنز فكانت موسومة بالهدوء والاسترخاء، يتناول العشاء مع عائلته أو الأصدقاء قبل أن يلوذ بفراشه في منتصف الليل.

أجاثا كريستي: ربّة بيت!

تشير كريستي (1890 - 1976) في سيرتها الذاتيّة إلى أنّها لا تعدّ نفسها، في الواقع، "كاتبة حقيقيّة"، على الرغم من أنّها ألّفت عشرة كتب. فعندما يلتمسون منها إثبات مهنتها في مطبوع ما، لا يتبادر إلى ذهنها تدوين شيء آخر غير "ربّة بيت".

"الغريب أنّني نادرًا ما أتذكّر الكتب التي ألّفتها بعد زواجي، بالضبط. أفترض أنّني كنت أستمتع بالحياة اليوميّة المشتركة، لدرجة كانت الكتابة لديّ، بمنزلة مهام أقوم بها بشكل متقطّع مختلس. لم يكن لي مكان محدّد أبدًا، مثل مكتب، أو أيّ فضاء آخر ألوذ به، بخاصّة، طلبًا للعزلة والكتابة". جلب هذا الأمر لكريستي مشاكل لا تنتهي مع الصحافيّين، الذين لم يكن من السهل منعهم من أخذ صور فوتوغرافيّة للكاتبة وهي تجلس إلى مكتبها. لكن، لم يكن وجود لفضاء محدّد. "كلّ ما كانت تحتاجه طاولة متينة محكمة، وآلة كاتبة".

أجاثا كريستي

"طاولة حوض غسيل مغطّاة بالرخام كان مكانًا مناسبًا للكتابة؛ مائدة للطعام، ما بين وجبة وأخرى، تنفع أيضًا". قال لي كثير من أصدقائي: "لا نعرف أبدًا متى تؤلّفين كتبك، لأنّنا لم نرك قطّ تكتبين، ولا حتّى منصرفة لأجل الكتابة". ذلك لأنّني أفعل مثلما تفعل الكلاب عندما تظفر بعظم؛ تنسحب بحذر ولن تراها إلّا بعد مرور نصف ساعة. تعود بخجل وخطمها موحل. أنا أفعل الشيء نفسه تقريبًا. أشعر بنفسي في قمّة الخجل وأنا منصرفة للكتابة. لكن، بمجرّد ما أفرّ بجلدي، وأغلق عليّ الباب، ولا أترك للناس مجالًا لمضايقتي، حتّى أتمكّن من الانطلاق بأقصى سرعة، منغمسة تمامًا في ما أفعله".

دي بوفوار: بساطة مقصودة

"دائمًا أستعجل الانطلاق، وإن كانت بداية اليوم لا تعجبني بعامّة"، تقول سيمون دي بوفوار (1908 – 1986) للمجلّة الباريسيّة عام 1965. "في البداية أتناول كوبًا من الشاي، وحوالي العاشرة، أشرع في العمل إلى حدود الواحدة. بعد ذلك ألتحق بأصدقائي حتّى تصل الساعة للخامسة، حيث أستهلّ الكتابة من جديد إلى حدود التاسعة. لا أجد صعوبة في اسئناف العمل بالمساء".

والواقع أنّه نادرًا ما وجدت دي بوفوار صعوبة في العمل، في كلّ الأحوال، وعلى العكس تمامًا، عندما تستأنف شهور عطلتها، يبدأ إحساسها بالضجر وعدم الارتياح بعيدًا عن عملها، منذ الأسابيع الأولى. وحتّى لو كان العمل عند دي بوفوار في المقام الأوّل، فإنّ جدولها الزمنيّ يدور وفق علاقتها بجان بول سارتر، التي استمرّت من عام 1929 إلى حين وفاته عام 1980.

سيمون دي بوفوار

تشتغل دي بوفوار وحدها في الصباح بعامّة، وبعد ذلك تلتحق بسارتر من أجل تناول وجبة غداء. وفي المساء يشتغل الصديقان رفقة بعضهما البعض في صمت داخل شقّة سارتر. وفي الليل، يتوجّهان لحضور أيّ نشاط سياسيّ أو اجتماعيّ في مفكّرة سارتر، أو إلى صالات السينما، أو ينتقلان إلى شقّة بوفوار من أجل الدردشة والاستماع إلى الراديو.

وقد عبّر السينمائيّ كلود لانزمان، خليل دي بوفوار لعدّة سنوات: "فكّرت في اليوم الأوّل أن أبقى في السرير، لكنّها نهضت، ارتدت ملابسها واتّجهت إلى طاولة عملها. هل تعمل هناك؟ قالت لي وهي تشير إلى السرير. نهضت وجلست على حافّة السرير، دخّنت، وتأمّلتها تعمل. لا أعتقد أنّها قالت لي ولو كلمة واحدة حتّى جاء وقت الغداء. عندئذ ذهبت لرؤية سارتر وتناول وجبة الغداء معًا؛ كنت ألتحق بهما، أحيانًا. ثمّ، في المساء، تذهب إلى منزله، حيث يعملان ثلاث أو أربع ساعات. بعد ذلك، ثمّة اجتماعات ولقاءات. نلتقي في وقت متأخّر لتناول وجبة العشاء معًا، وغالبًا ما تدخل وسارتر في نقاش، فتبدي وجهة نظرها بخصوص ما كتبه خلال النهار. وأخيرًا، نعود أنا وهي إلى الشقّة، ونخلد إلى النوم. ما من حفلات، ولا استقبالات، ولا قيم برجوازيّة. كنّا نتجنّب كلّ هذا تمامًا. كانت طريقة حياة شفّافة، بساطة مشيّدة، عن قصد، لكي تتمكّن من إنجاز عملها".

إيكو: يمكنني العمل في المرحاض

أكّد الفيلسوف والروائيّ الإيطاليّ، أمبرتو إيكو (1932 – 2016)،  الأكثر شهرة بروايته الأولى "اسم الوردة"، التي صدرت وهو في الأربعين من عمره، أنّه لا يتّبع أيّ روتين لكي يكتب. ليس ثمّة وجود لأيّ قاعدة.

قال إيكو: من المستحيل في نظري الحصول على وقت معيّن. قد يحدث أن أبدأ الكتابة في السابعة صباحًا وأنتهي في الثالثة من صباح الغد، متوقّفًا من أجل تناول بعض الشطائر فقط. وأحيانًا لا أشعر برغبة في الكتابة، إطلاقًا".

أمبرتو إيكو

ومع ذلك، اعترف إيكو بعد إصرار مستجوبه، أنّ عاداته كاتبًا لم تكن دائمًا متنوّعة: "إذا كنت في منزلي الريفيّ، بجبال مونتفلترو، عندئذ أتّبع روتينًا معيّنًا. أفتح نظامي، أطّلع على بريدي الإلكترونيّ، أشرع في قراءة شيء ما، ثمّ أكتب حتّى حلول المساء. بعد ذلك أذهب إلى القرية، حيث أشرب شيئًا وأقرأ الصحف. أعود إلى البيت وأشاهد التلفزيون أو فيلمًا من أفلام دي في دي إلى حدود الحادية عشر ليلًا، ثمّ أعمل وقتًا إضافيًّا حتّى الواحدة صباحًا أو الثانية. هناك أتّبع روتينًا معيّنًا لأنّه ليس ثمّة ما يقاطعني. عندما أكون في ميلان أو في الجامعة، لا أصبح مالك وقتي؛ دائمًا ثمّة من يحدّد ما ينبغي أن أفعل".

ومع ذلك، يقول إيكو إنّه ينجح في أن يكون مُنتجًا خلال "فجوات" اليوم القليلة، حتى بدون أيّ كتل من أوقات الفراغ. يقول في حوار للمجلة الباريسيّة: "اتّصلتم بي هذا الصباح، لكن كان عليّ أن أنتظر المصعد، ومرّت دقائق كثيرة قبل أن يظهر سيادتكم على بالباب. خلال هذه الدقائق التي كنت أنتظر فيها وصولكم، كنت منشغلًا بالتفكير في الجزء الذي أعكف على كتابته. يمكنني العمل في المرحاض، في القطار. وبينما أسبح أكون إثر إنتاج أشياء كثيرة، ولا سيّما في عرض البحر. في حوض الغسيل أيضًا، لكن ليس كثيرًا".

 

* ترجمة د.خالد أقلعي؛ المصدر مجلّة الدوحة.